فصل: كَادَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.كَادَ:

وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ إِثْبَاتَهَا إِثْبَاتٌ وَنَفْيَهَا نَفْيٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُفِيدُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بِعُسْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِثْبَاتَهَا نَفْيٌ وَنَفْيَهَا إِثْبَاتٌ فَإِذَا قِيلَ كَادَ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وإن كادوا ليفتنونك} وَإِذَا قِيلَ لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فعله بدليل قوله: {وما كادوا يفعلون}.
وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ فِي النَّفْيِ بَيْنَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي فَنَفْيُ الْمُضَارِعِ نَفْيٌ وَنَفْيُ الْمَاضِي إِثْبَاتٌ بِدَلِيلٍ {فذبحوها وما كادوا يفعلون} وقوله: {لم يكد يراها} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ وَقَالَ إِنَّهُ الصَّحِيحُ.
وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَبَةُ فَمَعْنَى كَادَ يَفْعَلُ قَارَبَ الْفِعْلَ وَمَعْنَى مَا كَادَ يَفْعَلُ لَمْ يُقَارِبْهُ فَخَبَرُهَا مَنْفِيٌّ دَائِمًا.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ مُقَارَبَةُ الْفِعْلِ اقْتَضَى عَقْلًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا أخرج يده لم يكد يراها} وَلِهَذَا كَانَ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَرَهَا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ قَدْ يُقَارِبُ الرُّؤْيَةَ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةً فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِقُرْبِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عُرْفًا عَدَمَ حُصُولِهِ وَإِلَّا لَمْ يَتَّجِهِ الْإِخْبَارُ بِقُرْبِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {فذبحوها وما كادوا يفعلون}.
فَإِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْفِعْلِ لَهُمْ فِي قوله: {فَذَبَحُوهَا}.
وَوَجْهُهُ أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا بُعَدَاءَ مِنْ ذَبْحِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَنُّتِهِمْ وَحُصُولُ الْفِعْلِ إِنَّمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قوله: {فَذَبَحُوهَا}.
وَالْأَقْرَبُ أَنْ يقال: إن النفي وارد على الإثبات وَالْمَعْنَى هُنَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ الذَّبْحَ قَبْلَ ذلك لأنهم قالوا {أتتخذنا هزوا} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئا قليلا} فَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مُقَارَبَةُ الرُّكُونِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ وُجُودِ التَّثْبِيتِ لِيَنْتَفِيَ الْكَثِيرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ كَادَ الْمُقْتَضِيَةُ الْمُقَارَبَةَ لِلْفِعْلِ بقدر الظاهرة للتقليل كُلُّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكَادُ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قليلا للتثبيت مع ما جبلت عليه.
وهكذا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ فَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ بِمَعْزِلٍ.
وَحَكَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكَدْ يراها}:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعُسْرٍ أَيْ رَأَهَا بَعْدَ عُسْرٍ وَبُطْءٍ لِتَكَاثُفِ الظُّلَمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَيْ لَمْ يَرَهَا أصلا لأن الله تعالى قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بعضها فوق بعض} كان مقتضى هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَحُولُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَى الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمَنَاظِرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى أراد من قوله: {كدنا ليوسف} أَيْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرَاهَا.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} مُمْتَحِنًا لِبَصَرِهِ لم يكد يخرجها ويراها صِفَةٌ لِلظُّلُمَاتِ تَقْدِيرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يَرَاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أكاد أخفيها لتجزى} فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى أُرِيدُ أُخْفِيهَا لِكَيْ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى.
وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {آتِيَةٌ أَكَادُ} وَالْمَعْنَى أَكَادُ آتِي بِهَا ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقوله: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى}.
وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَكَادُ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا يُقَالُ أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَإِذَا أَظْهَرْتُهُ.
وَقِرَاءَةُ الضَّمِّ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِظْهَارِ وَمَعْنَى سَتَرْتُهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْفَى وَقْتَهَا قَوِيَتِ الدَّوَاعِي عَلَى التَّأَهُّبِ لَهَا خَوْفَ الْمَجِيءِ بَغْتَةً.
وأما قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء} فَلَمْ يُثْبِتْ لِلزَّيْتِ الضَّوْءَ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الْمُقَارَبَةَ مِنَ الضَّوْءِ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ ثُمَّ أَثْبَتَ النُّورَ بِقوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النُّورَ دُونَ الضَّوْءِ لَا نَفْسُهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكَادُ يُضِيءُ مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يُضِيءُ وَلَكِنْ يُقَارِبُ الْإِضَاءَةَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمِسَاسِ يُضِيءُ قَطْعًا أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَالِ أَيْ يَكَادُ يُضِيءُ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ مَسَّتْهُ لَأَضَاءَ قَطْعًا.

.قَاعِدَةٌ في مجيء كاد بمعنى أراد:

تجيء كَادَ بِمَعْنَى أَرَادَ وَمِنْهُ {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} {أكاد أخفيها} وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي يكاد.

.قاعدة: فعل المطاوعة:

فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ الْوَاقِعُ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ اقْتَضَاهُ نَحْوَ كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْخُلَاصَةِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى قَبُولِ مَفْعُولٍ لِأَثَرِ الْفَاعِلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُطَاوِعَ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ لِقَوْلِكِ كَسَرْتُ الشَّيْءَ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ مُعَالَجَتِكِ فِي إِيْصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَإِذَا قُلْتَ فَانْكَسَرَ عُلِمَ أَنَّهُ قَبِلَ الفعل وإذا قلت لم ينكسر على أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَمَّا الْمُطَاوَعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فَيَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفَاعِلِ فِي إِيصَالِ فِعْلِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ قَبِلَ الْفِعْلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره أن المطاوع والمطاوع لابد وأن يشتركا في أصل المعنى والفرق بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ التَّأَثُّرِ وَالتَّأْثِيرِ كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمُطَاوَعَةِ إِلَّا حُصُولُ فِعْلٍ عَنْ فِعْلٍ فَالثَّانِي مُطَاوِعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَ الْأَوَّلَ وَالْأَوَّلُ مُطَاوَعٌ لِأَنَّهُ طَاوَعَهُ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمُطَاوَعُ لَازِمًا لِلْمُطَاوِعِ وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى على الهدى} فَأَثْبَتَ الْهُدَى بِدُونِ الِاهْتِدَاءِ.
وَقَوْلُهُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ فَأَثْبَتَ الْأَمْرَ بِدُونِ الِائْتِمَارِ وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَأْتَمَرَ أَيِ امْتَثَلَ فَإِنَّ الِامْتِثَالَ خِلَافُ الطَّلَبِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِـ: {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الْهَدْيَ الْحَقِيقِيَّ بَلْ أَوْصَلْنَا إِلَيْهِمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ مِنْ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الِاهْتِدَاءِ وَأَمَّا الْأَمْرُ فَيَقْتَضِيهِ لُغَةً أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِائْتِمَارِ.
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: الِائْتِمَارُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي الْأَسَاسِ يُقَالُ أَمَرْتُهُ فَائْتَمَرَ وَأَبَى أَنْ يَأْتَمِرَ أَيْ أَمَرْتُهُ فَاسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْتَمِرِ الْمُمْتَثِلُ وَيُقَالُ عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ فِعْلٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِإِيجَادِهِ.
كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَمَا صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَعَلِمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْعِلْمِ وَهُوَ عِلَّةٌ فِيهِ فَمَعْلُولُهُ وَهُوَ التَّعَلُّمُ يُوجَدُ مَعَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ تَقْتَضِي تَعَقُّبَ الْعِلْمِ وَإِنْ قُلْنَا الْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ فَلَا فَائِدَةَ فِي فَتَعَلَّمَ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ قَدْ فُهِمَ مِنْ عَلَّمْتُهُ فَوَضَحَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ لَكَانَ إِمَّا أَلَّا يَصِحَّ عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ أَوْ لا تكون فِي قَوْلِنَا فَتَعَلَّمَ فَائِدَةٌ بِتَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَنَعُوا كَسَرْتُهُ فَمَا انْكَسَرَ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِهِمْ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ؟
قِيلَ: فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَمِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَكَانَ عِلْمُهُ مَوْضُوعًا لِلْجَزَاءِ الَّذِي مِنَ الْمُعَلِّمِ فَقَطْ لِعَدَمِ إِمْكَانِ فِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا بُدَّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ فَإِنْ آثَرَهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْمُطَاوَعَةُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ تَقُولُ دَعَوْتُهُ فَأَجَابَ وَأَعْطَيْتُهُ فَأَخَذَ وَلَا تَقُولُهَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمُرَادَ إِفَادَةُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْفَاءِ كَقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتدي}.
وَيَجُوزُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}.
وكقوله: {فاستجبنا له ونجيناه}.
وفي موضع آخر: {فاستجبنا له فنجيناه}.
وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ إِلَّا بِالْفَاءِ.
وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قلبه عن ذكرنا}، بِأَنَّ أَغْفَلَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَجَدْنَاهُ غَافِلًا لَا جَعَلْنَاهُ يَغْفُلُ وَإِلَّا لَقِيلَ فَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَاوِعًا.
وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ اتِّبَاعُ الْهَوَى مُطَاوِعًا لِـ: (أَغْفَلْنَا) بَلِ الْمُطَاوِعُ لِـ: (أَغْفَلْنَا) غَفَلَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْغَفْلَةِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْمُسَبَّبُ عَنِ السَّبَبِ سَبَبٌ.
قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُسَبَّبٌ عَنِ الْغَفْلَةِ بَلْ قَدْ يُغْفَلُ عَنِ الذِّكْرِ وَلَا يُتَّبَعُ الْهَوَى وَيَكُونُ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ غَفْلَةً أُخْرَى عَنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي الْفَتْحِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ اعْتِقَادُهُ الِاعْتِزَالِيُّ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْعَبْدِ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلَ أَفْعَلَ هُنَا بِمَعْنَى وَجَدَ لَا بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ كَلَامِهِ وَأَنَّ الْمُطَاوِعَ لَا يَجِبْ عَطْفُهُ بِالْفَاءِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسليمان علما وقالا الحمد لله} هَذَا مَوْضِعُ الْفَاءِ كَمَا يُقَالُ أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ بَعْضُ مَا أَحْدَثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ فَأَضْمَرَ ذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالتَّحْمِيدِ كَأَنَّهُ قَالَ فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ وَعَرَفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا وَعَمَّا قَالَا كَأَنَّهُ قَالَ نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ كَقَوْلِكَ قُمْ يَدْعُوكَ بَدَلَ قُمْ فَإِنَّهُ يدعوك.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ التَّعْلِيمِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطِ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يقل واتقوا الله يعلمكم وَلَا قَالَ فَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الِاقْتِرَانُ وَالتَّلَازُمُ كَمَا يُقَالُ زُرْنِي وَأَزُورُكَ وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَارُضَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدٌ لِسَيِّدِهِ أَعْتِقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ أَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طلقني ولك أَلْفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَتَّى عَلَّمَ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.
وَقَوْلُهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ الله تواب رحيم} وَوَجْهُ هَذَا الْخِتَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الاغتياب وهو من الظلم.
وهاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ هَلْ يَسْتَدْعِي مُطَاوَعَةً أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يهد الله فهو المهتدي} فَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يهتدي وأما قوله: {وأما ثمود فهديناهم} فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِيهِ الدَّعْوَةُ بدليل {فاستحبوا العمى على الهدى}.
وَالثَّانِي: لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِدَلِيلِ قوله: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} وَقوله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} لِأَنَّ التَّخْوِيفَ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ نَافِعٌ يَصْرِفُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي الزَّمَانِ وَيَكُونُ أَخْرَجْتُهُ فما خرج حقيقة.